الانتخابات التونسية- إحباط شعبي ورغبة في التغيير والبحث عن بديل

في ظل أجواء مشحونة بالتحديات، تستعد تونس لخوض غمار الانتخابات الرئاسية المقرر إجراؤها في السادس من شهر أكتوبر/تشرين الأول المقبل. إلا أن هذه الانتخابات تأتي في خضمّ سياق وطني يزخر بعوامل قد تعصف بنجاحها، إن أُجريت بالفعل. وعلى الرغم من أن البيئة الانتخابية تفتقر إلى الحد الأدنى من المعايير التي تكفل إجراء انتخابات ديمقراطية حقيقية، فإن السلطة القائمة تواصل بكل أسف نهج سياسة الأمر الواقع، وتعمّق حالة التدهور من خلال الإصرار على فرض توجهاتها بالقوة، وتجاهل الدستور والقوانين، وتسخير موارد الدولة لخدمة مصالح الرئيس الحالي، قيس سعيد، الذي أوشكت ولايته على الانتهاء.
ولكن، هل يعني التسليم بفشل القائمين على هذه الانتخابات في تفريغها من أي مضمون حقيقي، وتجريدها من كافة المعايير الأساسية للانتخابات الحرة والتعددية والنزيهة والشفافة، أنه لم يعد هناك أي آمال أو تطلعات معلقة عليها؟
هل سيختار الناخبون التوجه نحو مقاطعة واسعة النطاق للاقتراع، أم أن ردة الفعل الشعبية ستكون مغايرة ومفاجئة بمشاركة جماهيرية حاشدة؟
إحباط عميق من الواقع وقلق بالغ من المستقبل
تكشف العديد من الدراسات والاستطلاعات أن الظروف المعيشية للتونسيين قد شهدت تدهورًا كبيرًا وملحوظًا خلال السنوات الثلاث الأخيرة من الحكم الفردي لقيس سعيد (2021-2024)، وهو ما أفضى إلى شعور عام بالإحباط واليأس لدى معظم المواطنين، بعد أن غمر حياتهم بوعود براقة بتحسين أوضاعهم المعيشية نحو الأفضل. وبالفعل، تغير كل شيء في الحياة اليومية للتونسيين، ولكن للأسوأ، مما جعل اهتماماتهم تتحول إلى التركيز على صعوبة الوضع الاقتصادي، وارتفاع معدلات البطالة، وغلاء الأسعار، بعد أن كانت هذه القضايا تحتل مرتبة أقل أهمية في الأشهر الأولى التي أعقبت يوم 25 يوليو/تموز 2021.
ومن بين المسائل الملحة الأخرى التي تشغل بال التونسيين، وتثير لديهم شعورًا بالخوف والقلق من المستقبل، تبرز مشكلة الفقر المتفاقمة، التي اتسعت رقعتها بشكل كبير نتيجة لارتفاع الأسعار، وتراجع مستوى الخدمات العامة، وتدني الأجور، وشح الدعم الحكومي. ووفقًا لبيانات المعهد الوطني للإحصاء (وهو مؤسسة رسمية)، فقد ارتفعت نسبة الفقر في تونس من 23.2% إلى 32.6% في عام 2024. وتزداد هذه النسبة بشكل خاص في المناطق الداخلية غير الحضرية، حيث يعيش العديد من التونسيين في حالة من العجز التام عن توفير الغذاء والماء الضروريين، بينما يكابد آخرون لتأمين قوت يومهم بصعوبة بالغة.
لم يقدم قيس سعيد، طوال فترة حكمه الفردي، أي خطة اقتصادية أو اجتماعية جادة يمكن أن تسهم في تحسين مستوى معيشة المواطنين، وتمنحهم الأمل في مستقبل أفضل لأبنائهم. بل الأمر أدهى وأمرّ من ذلك، حيث إن تدبيره للشؤون الاقتصادية والاجتماعية قد فاقم من تعقيدات الوضع الاقتصادي والمالي، وزاد من معاناة التونسيين بشكل ملحوظ، مما جعله في نظر عدد غير قليل ومتزايد من المواطنين رمزًا للفشل وعائقًا رئيسيًا أمام تحقيق أي تغيير إيجابي.
تراجع ملحوظ في الثقة بقيس سعيد
من الطبيعي والمنطقي أن يفضي هذا الإحباط المتزايد إلى تراجع مطرد في مستوى الثقة بقيس سعيد، وربما إلى أدنى مستوياته، ضمن ديناميكية سلبية لا يبدو أن الرئيس قادر على إيقافها. ويمكن ملاحظة هذا التراجع في الثقة من خلال انحسار التأييد الشعبي لمشروعه السياسي والطريقة التي يتبعها في إدارة شؤون الدولة.
وقد تجلى ذلك بوضوح في ضعف الإقبال الشعبي على جميع المحطات الانتخابية التي نظمها (بنسب تتراوح بين 8 و10%)، وفي ضعف الحضور الجماهيري في التحركات الداعمة له، وآخرها التجمع الذي أقيم يوم 25 يوليو/تموز 2024 أمام المسرح البلدي بالعاصمة، حيث لم يتجاوز عدد الحضور بضع مئات، وغالبهم من كبار السن، مع غياب شبه تام للشباب. كما يتضح ذلك أيضًا في تصاعد التذمر والاستياء من تردي الأوضاع المعيشية، وتحميل الرئيس سعيد مسؤولية ذلك، مما ينبئ بتلاشي الصورة "المقدسة" التي كانت تحيط به، وتراجع صورته كمنقذ.
ومما لا شك فيه أن عزوف التونسيين عن الاهتمام بالشأن العام لا يعزى إلى رضاهم عن حكم الرئيس سعيد واطمئنانهم على مستقبلهم، بل يعود بالأساس إلى خيبة أملهم فيه كآخر السياسيين الذين منحوه ثقتهم ثم خابت آمالهم، تمامًا كما حدث مع من سبقوه. ومن المرجح أيضًا أن عامل الخوف من بطش السلطة الذي يسود الشارع التونسي يخفي وراءه منسوبًا عاليًا من عدم الرضا، وإحباطًا عميقًا من الواقع، وقلقًا بالغًا من المستقبل، وكل هذه العوامل تتضافر لتقويض الثقة في الرئيس سعيد، لتصل إلى مستوى كبير من الضعف يرى تأثيره واضحًا دون الحاجة إلى التصريح به.
الرغبة الجامحة في التغيير
عادة ما يتلازم تراجع الثقة في الحاكم مع تنامي الرغبة في التغيير، وغالبًا ما يتم التعبير عن هذه الرغبة في المحطات الانتخابية، وخاصة منها الانتخابات الرئاسية. ومما يعزز هذه الفرضية في الحالة التونسية هو التغيير الذي طرأ على خريطة الناخبين التونسيين خلال السنوات الأخيرة، بدخول عدد لا بأس به من الشباب إلى سجلّ الناخبين.
وتشير بعض الإحصائيات إلى أن 54% من التونسيين الذين تتجاوز أعمارهم ثمانية عشر عامًا قد شاركوا مرة واحدة على الأقل في الانتخابات، مقابل 45% لم يسبق لهم المشاركة في أي انتخابات؛ إما لأن أعمار بعضهم كانت أقل من السن القانونية للانتخابات، أو لأن البقية اختاروا عدم المشاركة في الاقتراع.
وتشير التقديرات إلى أن نسبة التونسيين الذين سيشاركون في الاقتراع تبلغ حوالي 35%، أي ما يعادل ثلاثة ملايين ومائتي ألف ناخب، وقد تكون من بينهم نسبة محترمة لم تحسم بعد أمرها بشأن المرشح الذي ستصوت له، في حين يبدو أن دائرة الذين (لن) يصوتوا لقيس سعيد كبيرة، لأنها تستمد قوتها من خزانين انتخابيين كبيرين ينتميان إلى العائلة المحافظة التي تعتبر الأهم والأوسع انتخابيًا، وهما الخزان الإسلامي والخزان الدستوري. ويضاف إلى ذلك أنصار الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني المعارضة لقيس سعيد.
وإذا جمعنا بين الذين لن يصوتوا له لاعتبارات سياسية، وبين تراجع الثقة الشعبية فيه، بالإضافة إلى عامل الخوف، واقتطاع المترشح زهير المغزاوي، الأمين العام لحركة الشعب المساندة للرئيس قبل 25 يوليو/تموز 2021 وبعده، جزءًا من الخزان الانتخابي لسعيد بعد تحميله المسؤولية عن جميع إخفاقات المرحلة، فإن النتيجة ستكون واضحة وهي تناقص ذلك الخزان إلى حدود دنيا تمنعه على الأقل من المرور إلى الدور الأول.
البحث المضني عن بديل
قد لا تكون الحالة العامة في تونس اليوم مختلفة كثيرًا عن الوضع الذي سبق يوم 25 يوليو/تموز 2021. فالبلاد تعيش حالة شلل يكاد يكون شاملًا، والانحدار نحو الأسوأ لا يتوقف، والخطر الداهم يتهدد تونس من كل جانب، خطر الانهيار الاقتصادي والمالي، وخطر الانفجار الاجتماعي، وأخطار الفوضى، وربما حتى الاحتراب الأهلي.
تشهد تونس، بعد ثلاث سنوات من الحكم الفردي لقيس سعيد، حالة غير مسبوقة من التعتيم، نتيجة لفراغ الساحة السياسية من أي عملية سياسية حقيقية، باستثناء "صولاته وجولاته" وخطاباته الإقصائية، ومن الشلل التام الذي أصاب جميع مؤسسات الدولة تقريبًا، نتيجة لغياب الرؤية الواضحة، وشلل الإدارة الذي أعلن الرئيس سعيد حربه عليها تحت شعار "التطهير". هذا بالإضافة إلى تزايد الاعتداءات على الحريات السياسية والفردية وتكميم الأفواه.
لهذه الأسباب وغيرها، قد يرى التونسيون في هذه الانتخابات فرصة سانحة للتغيير، يغلقون بها قوس حكم الرئيس سعيد، ويفتحون صفحة جديدة. ينتظر التونسيون من يتقدم إليهم بعرض سياسي جديد يمثلهم بحق، وقادر على أن يعبر بهم إلى بر الأمان والرفاه الاقتصادي، وإلى حياة سياسية جادة وفاعلة، وفضاء اجتماعي متناغم، وعلاقات خارجية خالية من سياسة الاصطفاف، وعلاقات حسن جوار مع الدول المجاورة مبنية على التعاون والتكامل.
الانتخابات في ميزان التاريخ
قد تكون هذه الانتخابات الرئاسية بالغة الأهمية، ولكنها في جميع الأحوال ليست نقطة النهاية، وإنما هي مجرد محطة من المحطات العديدة. قد ينجح مهندسو هذه الانتخابات في حصد النتيجة لصالح قيس سعيد، ولكنه سيظل بكل تأكيد الخاسر الأكبر، وستكون خسارته مضاعفة: خسارة رأسماله الرمزي الذي كسب به الانتخابات السابقة بنتيجة قياسية، وخسارة المستقبل، وهي أشد وطأة.
لقد غاب عن ذهن الرئيس سعيد، في غمرة سعيه الحثيث نحو البقاء في السلطة، ولو بالإكراه، أن مستقبل تونس هو جزء لا يتجزأ من مستقبل العالم، وخاصة بعد طوفان الأقصى المبارك، الذي لن تتوقف شعوبه عن خوض معاركها "المقدسة" التي ترقى لتكون حرب تحرير حقيقية من أجل استعادة سيادتها على أرضها واستقلال قراراتها، ومن أجل تحقيق الحرية والعدالة والديمقراطية الحقة.
وبهذا المعنى، يبدو قيس سعيد وكأنه يعيش خارج نطاق التاريخ، وفي قطيعة تامة مع اتجاهاته المستقبلية، وأنه لا يزال حبيس برجه العاجي، متمحورًا حول ذاته ومجموعة من الشعارات الجوفاء التي لم تعد تقنع حتى أشد المتحمسين له. وهو في قطيعة أشد مع التطورات المتسارعة التي يشهدها العالم، وخاصة بعد طوفان الأقصى الذي كسر العديد من الحواجز وأسقط العديد من "المسلمات"، وفتح المجال أمام أحرار العالم للاستلهام من جديد معاني الحرية والتحرر.
لا يمثل قيس سعيد المستقبل، بل إنه اليوم يمثل حجر عثرة أمام التغيير المنشود الذي يتطلع إليه التونسيون. والأكيد أن هذه الانتخابات، إن لم تنهِ حكم سعيد الآن، فإنها ستجعل من ولايته الثانية مجالًا لاستكمال إضعافه من خلال تجربة جديدة من الحكم الفاشل، وفي الوقت نفسه ستكون بمثابة فسحة لاستكمال تهيئة الظروف المناسبة للتغيير.